حاول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الموسوم (طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد) بروز مفهوم الوحدانية بوصفها اعتراف بأن لا إله إلا
الله تعني لا متجبر سواه، إذ أن نطق الشهادتين يستدعي بالضرورة الكفر بأي جبابرة
على الأرض. وهي محاولة لرفض الاستبداد من الدين نفسه، إلّا أنه وفي ذات الإطار
الديني يبرر للحاكم استبداده تحت مبدأ الطاعة لولي الأمر. ومبدأ الطاعة فيه تأويلٌ
ونظر لما له من لبس في المنظومة الدينية. وعادةً ما استثمر هذا المبدأ في التاريخ
الإسلامي من قِبل رجال الدين المقربين من الخليفة أو مؤسسة الحكم؛ لأن جوهر الدين
الإسلامي هو التوحيد وهو ما يتعارض كليةً مع حكم ديني ثيوقراطي كالذي تعتقد به
الكنيسة في العصر الوسيط، أو الحضارات القديمة، بأن الحاكم ابن الله أو هو الله.
وعند
أول مبايعة في التاريخ الإسلامي في سقيفة بني ساعدة للصحابي الجليل أبي بكر الصديق
رضي الله عنه قال في خطبته (أيها الناس. إني قد ولّيتُ عليكم ولستُ بخيركم. فإن
أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي
عندي حتى أزيح عنه علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء
الله)[1] وهو ما يوحي عدمية هالة القدسية للحاكم. فهو لم يتخلَّ عن كونه إنسان، ولم تتلبس به
فكرة أنه إله، أو شبه إله، أو حاكماً باسم الله.
فالخلافة هي نظام حكم تبلور -
كضرورة للسلطة - مع اتّساع رقعة الإسلام وتأثره بالنظم الفارسية والرومانية في
السياسة والاقتصاد، ليتبنّاهُ فيما بعد الأمويون والعباسيون. إلّا أن بوادر مفهوم
التفويض من الله بدأت مع الصحابي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين طُلب منه أن
يستقيل، فقال عبارته الشهيرة (ما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله)[2] لكنها استفحلت مع أمراء الدولة الأموية والعباسية وأصبحت القاعدة الأساسية لحكمهم.
إن الإصلاح
الديني يتّخذ عدة مسارات للوصول إلى تغيير جذري للمنظومة الدينية بحيث تتماهى مع
معطيات الحضارة.
فالديمقراطية ليست نقيضاً للأديان والإسلام بالخصوص. ولا يعني ذلك
إيجاد مبررات دينية لتفعيل مبادئها الحديثة في نظام الحكم، بل لتجاوز التأثيرات
المعيقة لها في التاريخ الإسلامي وليس الإسلام المجرّد. وهو تعاطي مرن لتطور
الدولة الطبيعي والصيرورة التاريخية في التاريخ الإنساني وتحديثه المستمر للأنساق
والأنماط في كل مجالات الحياة.
إن الإصلاح
الديني في العالم الإسلامي لم يثمر بعد في تجاوز المرحلة الدينية والتعاطي مع
الحضارة بوصفها صيرورة تاريخية. إذ أن جمود العقل وغلق منابع التفكير الحر أضحى
عائقاً أمام التحولات الجذرية للمنظومة الإسلامية. فكل سلطة متعاقبة -حتى تلك التي تعترف بالنظم الحديثة- لم تتّسرب
في بُنية المنظومة الفكرية الإسلامية.
فتارة تتّخذ صورة المعارضة الشديدة لحكم
ثيوقراطي إسلامي، أو متماهية بصورة لا عقلانية لم تصل إلى الأصول المعرفية التي
تغذي المفاهيم التقليدية حول الحكم الإسلامي.
وتارةً تتّخذ صورة علمانية[3] وسطية وهو صوتٌ خجول بين جل الأصوات.
لكن المزاج العام مُعبّأ ومشحون بالسياسة
الدينية المتعلقة بالتراث الديني باختلاف مذاهبه. لا الإسلام المجرّد.
التراث بوصفه تراكم معرفي في السياسة والاقتصاد والثقافة أدّى بصورة أو بأخرى إلى
بناء حاجز يحول المجتمعات الإسلامية بينها وبين النظم الحديثة في السياسة.
فالتحديث الذي لا يتم من الداخل ينحدر بسرعة جنونية. إذ أن المنظومات الأخرى تظل
معلقة دون أن تتفاعل مع البُنى الثقافية للمجتمع فعند أي انهيار للمنظومة السياسة تتحول
إلى دولة بدائية تحركها جموع راديكالية أو فاشية تكبح التحول الطبيعي والتاريخي
والنسق السياسي والثقافي العام للدولة.
إن مفهوم
الحاكمية لله والحاكمية للشعب لم يتم الفصل فيهما منذ انهيار آخر خلافة إسلامية
بداية القرن العشرين. وظلّت السياسة تتذبذب عند هذين المبدأين المتناقضين اللذين
يشكلان وعيين منفصلين من حيث الجوهر. ومن حيث الفعل السياسي.
والحصيلة من
فشل الإصلاح الديني هو انسداد آفاق التحول الديمقراطي في المنطقة وهو ضرورة؛ لأنه
كما كتب الكواكبي (لا إصلاح سياسي دون إصلاح ديني)[4] والإصلاح لا يعني إيجاد مبررات للديمقراطية والحكم المدني داخل النص الديني. بل
ضرورة تجاوز الحكم الديني وهو عودة لجوهر التوحيد الذي يُلغي العبودية لغير الله
وما يعني بالضرورة الكفر بأي جبابرة على الأرض.
فمن الداخل الإسلامي يمكن إيجاد صيغة
تحد من استبداد الحاكم والمنظومة السياسية والوصول إلى حكم ديمقراطي يحقق المواطنة
الكاملة بين أفراد الشعب الواحد وهو تعاطي عقلاني مع الصيرورة التاريخية والتحديث
للأنساق الإنسانية في السياسة والمجتمع، التي وصلت إلى صيغة مؤسساتية للدولة وليست
فردية. وهي بشرية إنسانية خالصة ومرنة مع المتغيرات الاجتماعية. وليست ثيوقراطية
مغلقة تحشر الشعب في نسقٍ من الخرافات والأوهام.
المراجع:
[1] البداية والنهاية.
ابن كثير. المجلد الخامس. صـ216. وتاريخ الخلفاء صـ 69
[2] البداية والنهاية.
مرجع سابق صـ 206
[3] العلمانية نعني
بها فصل رجال الدين عن السلطة. والقانون يقف على مسافة واحدة مع كل الأديان
والمذاهب والمعتقدات.
[4] العبارة وردت في
كتابه (طباع الاستبداد ومصارع الاستبداد).
التعليقات