الإمتثال المجتمعي: أنت مع الأغلبية الخاطئة؟!

شارك:



كلما تقدّم للعالم أحد ما بفكرة ثورية مخالفة لعُرف المجتمع، كلما لاقى صاحبها معارضة شديدة، مهما صنف الفرد فيما بعد كأحد العظماء الخالدين في ذاكرة الأجيال.

وإن كنت تقرأ هذا المقال الآن، فالراجح أنك عربي مسلم، وهذا يعني أيضا أنك تدين بدين قد ظهر قبل أكثر من 1400 سنة على يد نبي اسمه محمد.

وبحسب كتب السيرة، فإن النبي محمد عندما دعا قومه في مكة إلى الإسلام كان قد لاقى معارضة وعداوة شديدتين في مكة من القرشيين.

 فسؤالي إليك عزيزي القارىء: لو كنت من أهل مكة في ذاك الزمان، أتراك كنت ستكون من أتباع محمد؟!

إن الإجابة المنطقية لهذا السؤال هو أنك ستمتثل إلى المعارضين القرشيين، وهذا ليس فقط بسبب المنطق الظاهر والمبني على الحقائق التاريخية التي تؤكد معارضة الأغلبية، بل ما تؤكده أيضا العديد من الأبحاث العلمية في مجال علم النفس الاجتماعي، وهو أنك ستكون في صف الأغلبية حتى وإن كانت لك نظرة مستقلة مخالفة في بادىء الأمر عما هو صواب!

إن هذه الظاهرة يطلق عليها في علم النفس الإجتماعي بالإمتثال (Conformity). 

كَذّب عينيك من أجل البقية: 

لعل من أشهر هذه الأبحاث هو بحث سولومون آش (Asch) والذي في سلسلة تجاربه، في خمسينيات القرن الماضي، قام بعرض ثلاثة خطوط عمودية غير متساوية الارتفاع، سماها (A-B-C) على الترتيب، ثم عرض على الجانب خطا رابعا يتطابق مع أحد هذه الخطوط، ثم عرضها على مجموعة من الأفراد كلهم كانوا جزءً من التجربة باستثناء واحدا منهم، حيث كان المطلوب منهم هو تحديد أي الخطوط الثلاثة تتطابق مع الخط الرابع.  

كان هنالك اتفاق مسبق مع جميع الأفراد بأن تكون إجاتهم خاطئة، بينما رُتب الفرد المستقل بعيدا عن غالبيتهم، بحيث تتاح له الفرصة في الإجابة بعدهم؛ حتى يتأكد الباحثون ما إن كانت إجاباته ستتأثر بإجابتهم. 

ماذا كانت النتيجة؟!

رغم أن الإجابة الصحيحة كانت واضحة للعيان، إلا أن هذا الفرد بدا عليه الارتباك قبل أن يجيب أخيرا كالبقية، ليكون بذلك تبع خيار الأغلبية والذي هو في الأساس خاطىء، والذي كان واضحا أمام عينيه.

تجربة آش، حيث وضوح الإجابة الصحيحة وهي أن الخط المرجعي في جهة اليسار يتطابق مع الخط C

بعد ذلك كررت نفس التجربة ولكن هذه المرة، أدخل الفرد الآخر متأخرا، ثم أعطيت له ورقة ليجيب على الأسئلة، عندها اتضح أن إجاباته معظمها كانت مخالفة عن رأي الأغلبية، مما يدل على أن دخوله المتأخر وكذلك إجابته على الورق جعلاه خارج دائرة الإمتثال للأغلبية.

عداوة تجاه المختلف:

في تجربة أخرى، قام بها دكتور ستانلي شاشتر (Stanley Schachter,1951) بتقسيم مجموعة من الطلاب إلى مجموعات من ست إلى تسعة أفراد ليناقشوا قضية حدثت في الماضي عن جوني روكّو، وهو قاصر ارتكب بعض الجرائم في السابق، حيث كان المطلوب منهم تحديد نوعية المعاملة التي يستحقها بحيث أن هنالك مقياس كان عليهم أن يختاروا منه وأقل معاملة فيه هي (معاملة ليّنة جدا)، وأسوؤها هي (معاملة قاسية جدا). 

وكان في كل مجموعة ثلاثة أفراد مأجورين، بحيث أن الأول كان يسمى (الممتثل) وكانت مهمته هي التحيز لأغلبية المشاركين، والثاني هو (المنحرف) وهو الذي يأخذ منحنى معاكسا تماما للأغلبية، بينما الأخير هو (المتزحلق) والذي ارتكزت مهمته على اتباع (المنحرف) في البداية ثم يغير رأيه بحيث يتبع الأغلبية. 

وكانت النتيجة هي أن المنحرف هو الأكثر كرها بين أفراد المجموعة، فقد غدوا يتجاهلونه تماما عندما رأوا إصراره في مخالفتهم، بينما أكثرهم تفضيلا كان الشخص الممتثل والذي كان إلى جانب الأغلبية منذ البداية. 

إذن من هاتين التجربتين وغيرهما، نلاحظ بأن الإنسان يميل بطبعه إلى الإمتثال إلى الأغلبية، حيث أن الخروج عن الأغلبية يقابله معاداة ورفض، بغض النظر عن منطقية الخيار الذي قد يتخذه المخالف، وبالتالي، فقد يتنازل المرء عن أفكاره خوفا من الأغلبية فيمتثل لهم حتى لا يتحول إلى شخص منبوذ أمامهم والذي قد يكلفه الكثير، أو أن المرء قد يتخذ بالفعل قراره المخالف فيظهر كشخص منحرف عن الأغلبية ليصبح بالفعل شخصا منبوذا. 

للإمتثال فوائد:

بكل تأكيد هذا لا يعني أن المخالف دائما على صواب، بل إن هنالك سبب تطوري وراء الإمتثال يجعله ذو قيمة مهمة جدا للبقاء على قيد الحياة. 

فالإمتثال قد يسهل قديما على المجموعات العمل سوية في رحلات الصيد مثلا، أو كذلك الأمر في الحروب، بل حتى في عصرنا هذا، ولنا أن نتخيل أن رجلا قرر أن لا يمتثل إلى قوانين المرور بقيادة السيارة في الاتجاه المعاكس!

 كذلك، أيضا، يجب أن نضع في الحسبان أن للإمتثال أحيانا عواقب وخيمة جدا قد تؤدي إلى كوارث إنسانية، فقد يكون الحاكم مثلا محاطا بأناس يفكرون مثله، لا يجادلونه أبدا ولا يمكن أن يروا أن هنالك خطأ في فعلهم بسبب تحيزهم الآيديولوجي وولائهم لحاكمهم وتأثرهم بقرارات غالبية المجموعة، مما يجعلهم يتخذون قرارات كارثية قد تودي بحياة الكثيرين.

الإمتثال ووسائل التواصل الإجتماعي: 

يبدو أن الإمتثال قد تحول إلى عالم الإنترنت، حيث وسائل التواصل الإجتماعي، فقد يتعرض ذو الرأي المخالف على هجمات إلكترونية ودعوات للكره بسبب رأيه المخالف للأغلبية، وقد يشكل هذا ضغطا كبيرا على الفرد خصوصا أنه قد يتحول في بعض الحالات إلى اعتداءات جسدية مباشرة، وبالتالي فما يقال في مواقع التواصل الإجتماعي من آراء قد تكون مصيرية جدا للفرد، خصوصا إذا كانت آراؤه مخالفة للمجتمع، وخصوصا عندما يتعلق رأيه بمخالفة آراء الأغلبية.

ولهذا يجد المرء نفسه أمام خيارات قليلة، إما أن يظل خائفا من قول رأيه فيكتم قوله، وإما أن يتجاهل مايراه فيتغافل ويتقبل رأي الأغلبية على أنه الصواب كما حدث في تجربة آش، وإما أن يصدع بقوله فيلاقي معارضة شديدة قد تكلفه الكثير.

على أي حال فهذه ليست كل القصة، فالبرغم من أن تجربة شاشتر قد كُررت في الماضي لتعطي نفس النتيجة، إلا أن إريك ويسيلمان وفريقه، كرروا نفس التجربة وكانت النتيجة هي أن الكراهية والرفض للفرد المخالف (المنحرف) قد ضعفت، وهذا كما خلص الباحثون أنه ربما عائد لتغير نظرة المجتمع تجاه الفرد عما كان عليه في الماضي، فقد أصبح أكثر تقبلا للمخالف عن ذي قبل. 

 وربما هذا يعني أن المجتمع قد يتغير -إلى حد ما- ليتعامل مع المختلف بصورة أكثر إيجابية، وهو ما يعني مجتمع أكثر تسامحا وتعايشا مع المختلف.   


 

التعليقات

الاسم

أخرى,4,إدارة ذاتية,4,تاريخ، فكر، علم اجتماع,2,تعلم,9,علم النفس الإجتماعي,1,علم النفس الإدراكي,7,فلسفة,7,
rtl
item
فطن: الإمتثال المجتمعي: أنت مع الأغلبية الخاطئة؟!
الإمتثال المجتمعي: أنت مع الأغلبية الخاطئة؟!
https://blogger.googleusercontent.com/img/a/AVvXsEiYB62VaKwBwBkSxAyqeaU2ftH7bAVCmBvSZhOx8gUwii95mB0_Lcyps_61VW8Nt-7bBtUYBTDYVDExieN6XyA6jGgARU5yJQTPYkiUJcZvyK2c3QgoexVPIxge6ko7X-tWs8X-x13p3lm62vHpjY1cJTTwkN2CIh09mLqGdbsWzoffWdyJgVDoR7i-wQ=w640-h428
https://blogger.googleusercontent.com/img/a/AVvXsEiYB62VaKwBwBkSxAyqeaU2ftH7bAVCmBvSZhOx8gUwii95mB0_Lcyps_61VW8Nt-7bBtUYBTDYVDExieN6XyA6jGgARU5yJQTPYkiUJcZvyK2c3QgoexVPIxge6ko7X-tWs8X-x13p3lm62vHpjY1cJTTwkN2CIh09mLqGdbsWzoffWdyJgVDoR7i-wQ=s72-w640-c-h428
فطن
https://www.fa6n.com/2021/11/blog-post_10.html
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/2021/11/blog-post_10.html
true
3900940133559499526
UTF-8
تم تحميل جميع المقالات لا توجد أي مقالات مشابهة عرض الكل إقرأ المزيد التعليق إلغاء التعليق حذف بواسطة الرئيسية الصفحات المقالات عرض الكل مقترحة لك التسميات الأرشيف البحث جميع المقالات لا توجد أي مقالات مطابقة الرجوع للرئيسية الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر الآن قبل دقيقة قبل $$1$$ دقائق قبل ساعة قبل $$1$$ ساعات الأمس قبل $$1$$ أيام قبل $$1$$ أسابيع منذ خمسة أسابيع متابعين تابع هذا المحتوى مقفل الخطوة الأولى: شارك على شبكات التواصل الخطوة الثانية: اضغط الرابط من داخل موقع التواصل Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy قائمة المحتويات