مصدر الإبداع في الدماغ وخرافة الجانب الأيمن

شارك:




في القرن التاسع عشر للميلاد، اشتهر بين الناس في أمريكا علم يطلق عليه الفرينولوجيا، وهو، كما يرى أدعياءه، أن شخصية الإنسان وصفاته تظهر في تشكيل جمجمة الإنسان. فهم كانوا يرون أن تلك الصفات كالذكاء، والذاكرة، والإلهام، والأمل وغيرها، تظهر في أجزاء معينة من الجمجمة، والتي هي في نظرهم انعكاس لدماغ الإنسان نفسه. 
عندما تضغط بإصبعك السبابة على أجزاء من رأسك، فإنك ربما تحس ببعض التكور والنتوءات العظمية الطبيعية، هذه البروزات العظمية في الجمجمة كانت لها معنى عند الفرينولوجيين يتم الحكم بها على شخصيتك وقدراتك أو حتى توقع مستقبلك.[1]
الرسم يوضح تقسيمات الرأس حيث: خانة للذاكرة، والأمل وغيرها من القدرات الذهنية والشخصية
Wikipedia /المصدر

مع مرور السنين وتطور طرق البحث العلمي، ثبت أن هذا العلم زائف وليس له أي أساس من الصحة. إلا أن الشيء المؤكد هو أن الدماغ فعلا مقسم إلى أجزاء يقوم كل جزءٍ منه بوظائف معينة، حيث كان يتم التعرف على وظائف أجزاء الدماغ عن طريق الحوادث التي تطرأ في جزء معين من الدماغ. 
أول حادثة من نوعها غيرت التاريخ هي تلك التي حدثت لـ فينيس غيج، وهو عامل في السكك الحديدية، حين اخترق قضيبا حديديا جمجمته من الأمام خلف عينه اليسرى إلى الدماغ. ما ميز غيج هو أنه عاش بكامل وعيه إلا أنه كان قد أصبح أكثر عدوانية وأقل رزانة من ذي قبل، وهذا -كما عُرف فيما بعد- بسبب تلف الخلايا الأمامية في الدماغ. 
حادثة غيج حدثت في القرن التاسع عشر، أو بالتحديد في عام 1848م[2]، واستمرت الأبحاث في هذا الجانب منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.
 في عام 1981 مُنحت جائزة نوبل للطب أو الفسيولوجيا إلى روجر سبيري؛ وذلك لاكتشافه أن وظائف الدماغ موزعة في شقين: الأيمن وهو يقوم بالوظائف المتعلقة بالتصور والرسم والخيال، بينما الآخر هو الشق الأيسر والمختص بوظائف التحليل والمنطق واللغة. حيث تم إجراء تجاربه على مجموعة من المصابين بالصرع، وهو مرض سببه النشاط الزائد في خلايا الدماغ في أحد شقيه؛ وبالتالي يقوم الجراحون بفصل ما يعرف بالجسم الثفني (Corpus Callosum) بالدماغ والذي يربط خلايا الشقين الأيمن والأيسر ببعضهما البعض، حيث كان يعتقد سابقا أن إجراء عملية من هذا النوع ليس له تأثير في الجانب الإدراكي لدى الإنسان، إلى أن أثبت سبيري في الستينات من القرن الماضي عكس ذلك.[3]

إساءة مفهوم النظرية

المشكلة التي طرأت بعد ذلك هو التفسير الخاطئ لنتائج أبحاث سبيري، حيث اتّجه العديد من الناس، بل حتى الأكاديمين والتربويين، إلى تصنيف شخصيات الناس إلى يميني-الدماغ ويساري-الدماغ، وهذا تصنيف خاطىء ولم ترد أي أبحاث تؤيد ذلك.
لنلقي نظرة -من باب المثال- لكتاب الرسم على الجانب الأيمن للدماغ  لمعلمة الفن بيتي إدواردز. هذا الكتاب والذي صدر في سنة 1979 قد لاقى رواجا كبيرا. ولا زال حتى يومنا هذا مرجعية للكثير من معلمي وطلاب الرسم؛ بسبب أسلوبه السهل والذي يَعِدُ قرّاءه بأنهم جميعا قادرون على الرسم إذا عرفوا كيف. هذا وبالرغم من نتائج الكتاب الواضحة والإيجابية التي يراها القراء، إلا أن المشكلة تبقى في إدعائها أن على المرء أن يركز على تدريب وتنشيط الجانب الأيمن للدماغ، بما أنه المسؤول عن الفن، بالمقابل ذلك يحدث عن طريق إبعاد الدماغ الأيسر عن أي أعمال تحليلية لغوية.[4] 
أيضا هندرين (1989) ادّعى بأن على الأطفال تعلم لغة الإشارة لأنها المدخل إلى قدراتهم الإبداعية في الجانب الأيمن.[5]
فالسؤال هو: هل حقا أن الجانب الأيمن للدماغ هو مصدر الإبداع؟ أم أن مصدر الإبداع في الدماغ له مكان آخر؟
الدماغ الأيمن والأيسر: فكرة أسيء فهمها، حيث تم تفسير أن الإبداع مصدره الجانب الأيمن،
وأن الجانب الأيسر ليس له أي دور في الإبداع.
Freepik / المصدر

جدل حول ما إذا كان مصدر الإبداع هو الجانب الأيمن أم لا

تيرينس هاينس (1991)، في مقالة علمية بعنوان خرافة إبداع النصف الكروي الأيمن للمخ (The Myth of the right hemisphere creativity)، وهي مراجعة لعدة أبحاث علمية والتي أجريت على مبدعين تعرضوا لإصابة في أحد شقي أدمغتهم، انتقد جدا تلك النظرة الضيقة .حيث حاجج بأن ادّعاء أن الجانب الأيمن للدماغ هو مصدر الإبداع ما هو إلا كقولنا أن بيتهوفن سيكون تماما مبدع لو أزلنا الشق الأيسر لدماغه، وهذا ليس منطقيا. هاينس ومن خلال استقرائه لهذه الدراسات خلص بأن الجانب الأيمن للدماغ ليس وحده فقط هو المسؤول عن الإبداع. مثلا، ويرثيم و بوتكس (1961) في دراسة أجرياها على عازف آلة الكمان تعرض  في الجانب الأيسر لدماغه، لاحاظا بأنه قد فقد العديد من قدراته الموسيقية كالتحكم بالمقامات. الموسيقى بطبيعة الحال تصنف أنها من وظائف الجانب الأيمن.
استدل هاينس أيضا بدراسة لـ وينير وجاردنر، حيث أيضا توصلا إلى أن الإصابة بأي من الجانبين من شأنهما أن يؤثرا على القدرات الإبداعية الموسيقية. إضافة إلى ذلك، حالة موريس رافل وهو ملحن ومؤلف موسيقي، والذي أصيب بورم في نصف دماغه الأيسر، لم يتمكن من تأليف أي مقطوعة بعد الإصابة.[6]
الأمر لم يقتصر على الإبداع الموسيقي فقط فـ جاردنر أثبت أيضا من خلال أحد الرسامين المصابين في جانبهم الأيسر أن رسوماتهم أصبحث بسيطة وغابت عنها التفاصيل.[7]

دراسة جديدة


هذه الدراسات حدثت في الخمسة عقود الماضية مع غياب التكنولوجيا المناسبة، حيث كانت الدراسات مرتكزة بصورة أكبر على أناس عاشوا بعد إصابة وتلف خلايا أدمغتهم، فبهذه الطريقة يتم استنتاج الموقع الوظيفي في الدماغ بالتعرف على نوع الفقد الوظيفي لدى المصاب. أما الآن وبتطور التكنولوجيا، فقد أصبح دراسة نشاط المخ لأناس أصحاء ممكنا.
في بحث أجراه روجر إ. بيتي (2017) وزملاؤه نشرته الأكاديمية الوطنية للعلوم للولايات المتحدة الأمريكية (PNAS) في مجلتها العلمية، استطاعوا من خلاله إثبات أن الإبداع مصدره أماكن متعددة من الدماغ بالإضافة إلى تمكنهم من توقع وبدقة عالية ما إذا كان الشخص أكثر إبداعا من غيره أم لا.[8]

الدراسة أجريت على 163 فردا من تخصصات فنية وعلمية، تم خلالها وضع المشاركين لاختبار من نوع إيجاد حلول بطريقة التفكير التباعدية (Divergent Thinking)، حيث عرضت بعض الأدوات ليس بينهما علاقة واضحة، كجورب مثلا، ورؤية كم عدد الأفكار التي سيولدها المشاركون وكذلك من هم الأفراد الذين سيولدون أفكارا أصلية وغير مقلدة، والذين هم بطبيعة الحال أكثر إبداعا من غيرهم. فمثلا من يجيب بأن الجورب يمكن استخدامه لتدفئة القدم يعتبر أقل إبداعا من أولئك الذين يقدمون إجابات غير متوقعة كاستخدامه كأداة لتنقية الماء.

في هذه التجربة، تم استخدام تكنولوجيا تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لقراءة نشاط الدماغ أثناء الإختبار وبهذا تم التوصل إلى أن جميع شبكات الدماغ الثلاث تنشط بصورة أكبر عند أولئك الأكثر إبداعا وهي:
الشبكة الإفتراضية: وهي مجموعة المساحات في الدماغ والتي تنشط أثناء أحلام اليقظة والتخيل وهي تساعدنا على توليد الأفكار أثناء العصف الذهني.
الشبكة التنفيذية: وهي مجموعة المساحات في الدماغ والتي تنشط أثناء تقييم الأفكار والمفاضلة فيما بينها واتخاذ الفكرة الأفضل.
الشبكة الصامتة: وهي المساحات في الدماغ التي تعمل كمفتاح يحول نشاط الدماغ بين الشبكة الافتراضية والتنفيذية، والتي تساعد في تغيير التركيز بين توليد الأفكار وتقييمها.
تعمل هذه الشبكات الثلاث بصورة مستقلة عن بعضها البعض، إلا أنها تترابط بصورة أكبر عند أولئك الأكثر إبداعا كما بيّن بيتي وزملاؤه في بحثهم.[9]
هذا وقد بين بيتي في مقالة له نشرها موقع (the conversation)  أن  نتائج بحثهم هذا تتماثل مع أبحاث أخرى حول المبدعين المتخصصين كالشعراء وأصحاب موسيقى الجاز والذين تم تصوير نشاط أدمغتهم أثناء القيام بأعمالهم من كتابة شعر وعزف على الموسيقى باستخدام تكنولوجيا fMRI.
ومن المهم أن نؤكد أيضا أن  بحث بيتي  لم يحدد ما إذا كانت هذه النشاطات جينية أم أنهاخ يمكن تطويرها بالتدريب.

نظرة مغايرة: الإبداع أكثر تعقيدا من أن يتم تحديده

آرني دايتريك، بروفيسور في علم النفس ومؤلف كتاب: كيف يحدث الإبداع في الدماغ، انتقد، في مقال له في صحيفة الجارديان، الموضوع كاملا. حيث يرى أن لا أحد يستطيع أن يحدد مكان الإبداع في الدماغ متسائلا: "هل حقا نستطيع توقع أن اختبارًا يسألك لتتخيل استخدامات غريبة لـ [جورب] في دقيقة سينتقي دماغ آينشتاين من ذلك المحاسب العمومي؟"
فالطريقة الشائعة التي يقاس بها الإبداع هي نفس الطريقة التي استخدمها بيتي في دراسته المذكورة في هذا المقال والمعروفة بـ اختبار الاستخدامات المتعددة  (Alternative Uses Test) وهي طريقة تفكير تباعدية (Divergent Thinking). إلا أن ديتريك يرى بأنها ليست مجدية لسببين:
أولا، أن الإبداع يعامل وكأنه صفة شخصية، أو شيئا محددا، بمعنى أن هنالك شيئا ما زائدا لدى أولئك المبدعون. وأن هذه الدراسات تبدأ أساسا من ذلك المنطلق على حد قوله.
ثانيا، أن هذه الأبحاث متمحورة حول التفكير التباعدي، والذي عن طريقه يستطيع الفرد إيجاد أكبر قدر ممكن من الحلول، وبالتالي تُربط بالإبداع.  إلا أن واقع الأمر هو أن طريقة التفكير التقاربية (Convergent Thinking) والتي تركز عادة على إيجاد حل واحد مثالي، ممكن من شأنها ان تأتي بأفكار إبداعية وهو الأسلوب الذي اتخذه توماس إديسون، والذي حاز به على أكثر من 1093 اختراع.
  أيضا شدد ديتريك أن الأبحاث حول مصدر الإبداع متضاربة، فبعضها يذكر أن مصدر الإبداع هو الجانب الأيمن، وبعضها تقول بأنها في المنطقة الأمامية، وآخر يقول بأنها في الشبكة الإفتراضية للدماغ، وأخرى تخلص بأنها في منطقة الحصين (Hippocampus) "وهذا هو، يا أصدقاء، الفيرنولوجيا" بهذا خلص ديتريك نظرته عن أبحاث مصادر الإبداع.[10]

استمرار في البحث

على أي حال، فالأبحاث مستمرة في هذا الجانب ودائما ما تكشف لنا الجديد. معرفة آلية عمل الدماغ الإبداعي قد يساعدنا في تطوير الذكاء الصناعي ليشمل وظائف إبداعية كتلك التي يقوم بها الإنسان. إلا أننا لا زلنا بعيدين عن ذلك كما يبدو، أما الآن، فبإمكاننا القول أن مصدر الإبداع هو كل الدماغ




المصادر:

[1] Janik, E. (2018). The Shape of Your Head and the Shape of Your Mind. [online] The Atlantic. Available at: https://www.theatlantic.com/health/archive/2014/01/the-shape-of-your-head-and-the-shape-of-your-mind/282578/ [Accessed 12 Apr. 2018]. 
[2] Lewis, D. (2013). Impulse: Why we do what we do without knowing why we do it. London: Random House, pp.27-31. 
[3] Nobelprize.org. (2018). The Split Brain Experiments. [online] Available at: https://www.nobelprize.org/educational/medicine/split-brain/background.html [Accessed 12 Apr. 2018].
[4] Edwards, B. (1999). The new drawing on the right side of the brain. New York: Jeremy P. Tarcher/Putnam.

[5,6,7] HINES, T. (1991). The Myth of Right Hemisphere Creativity. The Journal of Creative Behavior, 25(3), pp.223-227.

[8] Beaty, R., Kenett, Y., Christensen, A., Rosenberg, M., Benedek, M., Chen, Q., Fink, A., Qiu, J., Kwapil, T., Kane, M. and Silvia, P. (2018). Robust prediction of individual creative ability from brain functional connectivity. Proceedings of the National Academy of Sciences, 115(5), pp.1087-1092.

[9] Beaty, R. (2018). New study reveals why some people are more creative than others. [online] The Conversation. Available at: https://theconversation.com/new-study-reveals-why-some-people-are-more-creative-than-others-90065 [Accessed 12 Apr. 2018].

[10] Dietrich, A. (2018). Where does 'creativity' happen in your brain?. [online] the Guardian. Available at: https://www.theguardian.com/education/2015/dec/28/where-does-creativity-happen-in-your-brain [Accessed 12 Apr. 2018].
 

التعليقات

الاسم

أخرى,4,إدارة ذاتية,4,تاريخ، فكر، علم اجتماع,2,تعلم,9,علم النفس الإجتماعي,1,علم النفس الإدراكي,7,فلسفة,7,
rtl
item
فطن: مصدر الإبداع في الدماغ وخرافة الجانب الأيمن
مصدر الإبداع في الدماغ وخرافة الجانب الأيمن
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi1Ci12xxoOiRDdQ13kQR9lycuKqmUUsOHdLB-vhIy-2ce5z-d44i_apbk8DdTTK7-XiqSZS-BapC7L8Jq47syauOjKIuHP7FDgpWekxvz_6g7OP8QGQ5vAOKdMeOTKmbl0Ks9OVDhMtHlc/s640/abstract-art-artist-820673.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi1Ci12xxoOiRDdQ13kQR9lycuKqmUUsOHdLB-vhIy-2ce5z-d44i_apbk8DdTTK7-XiqSZS-BapC7L8Jq47syauOjKIuHP7FDgpWekxvz_6g7OP8QGQ5vAOKdMeOTKmbl0Ks9OVDhMtHlc/s72-c/abstract-art-artist-820673.jpg
فطن
https://www.fa6n.com/2018/04/blog-post.html
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/2018/04/blog-post.html
true
3900940133559499526
UTF-8
تم تحميل جميع المقالات لا توجد أي مقالات مشابهة عرض الكل إقرأ المزيد التعليق إلغاء التعليق حذف بواسطة الرئيسية الصفحات المقالات عرض الكل مقترحة لك التسميات الأرشيف البحث جميع المقالات لا توجد أي مقالات مطابقة الرجوع للرئيسية الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر الآن قبل دقيقة قبل $$1$$ دقائق قبل ساعة قبل $$1$$ ساعات الأمس قبل $$1$$ أيام قبل $$1$$ أسابيع منذ خمسة أسابيع متابعين تابع هذا المحتوى مقفل الخطوة الأولى: شارك على شبكات التواصل الخطوة الثانية: اضغط الرابط من داخل موقع التواصل Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy قائمة المحتويات