رحلة الانتقال من الجزئي للكلي والتحامهما، أو النسبي والمطلق واتّحادهما.
"أُحدّق في العالم بوضوح وهدوء ثم أقول:
كل هذا الذي أراه وأسمعهُ وأتذوقهُ وأشمّهُ وألمسهُ هو من صنع عقلي. الشمس تصعد وتهبط داخل جمجمتي، من أحد صدغيَّ تشرق وفي الأخرى تغيب. في عقلي تلمع النجوم، الأفكار والناس والحيوانات تُرعى داخل رأسي الفاني. نحيبٌ وأغنيات تملأ تجاويف أذني اللولبية فيضطرب الهواء للحظة، ينطفئ العقل فيختفي كل شيء.. السماوات والأرض.
يهتف العقل.. أنا وحدي الموجود."
ما كُتب في الأعلى اقتباسًا من كتاب تصوّف منقذو الآلهة للكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازنتزاكيس، يوصف فيه بعمق مكثّف الحالة الصوفية التي تعتري المتصوف حين يصل إلى مرحلة الالتحام بالمطلق فيتناغم الوجود مع ذاته التي لا يشعر بها كذاتٍ منفصلة، لقد فُنيت تماماً، إذ أنها التحمت وتوحدت مع الوجود والمطلق فلا يشعرن بها إلّا مع استشعار الوجود داخله. وفي هذا سموٍ وتعالٍ عن بعض الأنماط الدنيوية. فلا ينزلق مع مُتع الدنيا، حتى إذا انتصر لا يصيبه منه انتشاءًا ولا غرور، ولا ينكسر إن انهزم، فلا ينغلق على نفسه بمشاعر الأسى والحزن. بمعنى أدق: حين بذل روحه نحو المطلق تعالت نفسه عن هذه المشاعر الدنيوية لأنه شعر بدونية أناه وهي تنزلق نحوها، وفي هذه الحالة استشعارٌ مفرطٌ للحرية، لأنه لم يعد الجزئي الذي يسعى للوصول إلى المطلق، ولا هو الوسيلة للوصول إلى الغاية، بل هو الوسيلة والغاية في نفس الوقت، وهو الجزئي والكلّي أيضاً، أي أنه هو غاية وجوده وتعني أيضاً هو المطلق. وفي ذلك كتب جوستاين غاردر في روايته الفلسفية "عالم صوفي" وهنا أقتبس "يحاول المتصوف أن يصل إلى الله بحبٍ ليتّحد معه، حتى يصل إلى درجة يقول فيها أنا الله" وفي تراثنا الصوفي الإسلامي كثيرٌ من هذه التمظهرات والتمثّلات التي تعتري المتصوفة أمثال الحلّاج والبسطامي وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم. فالحلاج أشتهر عنه وهو يقول "أنا الحق" وموضعٍ آخر وهو يقول:
عجبتُ منك ومنّي
يا منية المتمني
أذنيتني منك حتّى
ظننتُ أنّك أنّي
وقال أيضاً:
رأيتُ ربّي بعين قلبي، فقلت من أنت؟
قال أنت!
فليس للأين منك أينٌ، وليس أينٌ بحيثُ أنت!
ويأتي السؤال: كيف يصل المتصوف إلى هذه الحالة وما هي الوسائل والطرق التي يتّخذها للوصول؟
قال أحد كبار المتصوفة لمريده ذات يوم (إذا استطعت بذل الروح فتعال، وإلّا فل تشتغل بترهات الصوفية!)
للوصول إلى هذه الحالة الصوفية لا توجد طرق محددة. فهي متعلقة بالذات المتصوفة نفسها باعتمادها كليًا على الحس والحدس والتأمّل العميق للوجود ولذاته الداخلية، ومعنى ذلك أنها لا تقوم على مقدمات بحثية للوصول، ولا تلتفت لمقولات قابلة للأخذ والرد ولا تصل إليها. فالطريق في نهاية هذه الرحلة الروحية هو الاتحاد.
لطالما كانت هذه الرحلة شاقّة على نفس المتصوف، ومعاناته في الطريق تشكّل وفق تراكم تجربته الخاصة حكاية ذات رمزية عميقة، يتسامى بها، والحكاية كما يقول الصوفي الجنيد جند من جنود الله. وهذه الطريق ليست سوى نزع القشور الحياتية التي أُلصقت به، والتصوّرات القبلية عن الوجود والمطلق، حتى القيّم الأخلاقية المؤطرة بزمانه ومكانه أيضاً يتعرّى منها، ويتعرّى عن كل ما هو جزئي، ويتّحد من المطلق اللا نهائي الذي يتّخذ صورة الحق دائماً. وهنا تتساوى الذات الصوفية مع معايير الحق والحقيقة والمطلق.
وفي هذه الحالة لا تبقى المفاهيم ذاتها المتعارف عليها اصطلاحًا، كمن ينظر للوجود بعين المفارق الذي أوجده من شدّة اتحاده له، وفي هذا تتعمّق الرؤية وتتّسع ومن يقرأ وقفات الصوفي النفّري ومحاوراته يرى تجاوز الأبعاد الاصطلاحية والبيانية والبرهانية وغايات بعض المسلّمات في الفكر الديني الإسلامي، لأنه تحرّر منها، إلى مفاهيم مستخلصة من ذاته التي تشكّلت في الطريق واتّحدت مع المطلق، فتتجلى الحقيقة على لسانه من منطق الإخلاص لحقيقة المطلق، لا الإخلاص لحقيقة الأيديولوجيا واستخدامها للمحاجّة والمخاصمة والحُكم على الآخرين. لذلك تبقى كتابات المتصوفة قابلة للتأويل ودائمة التأمل، ويمكن الاستلهام منها، لما فيها من عُمق وكثافة للمعنى داخلها، ورغم هذا فالصوفي لا يقول كل شيء أدركه، لأن اللغة في أحايين كثيرة لا تحتمل ما يصل إليه، كما قال النفرّي في ذلك (رأيت الأبد، ولا عبارة في الأبد) فما كتبه المتصوفة مقاربة لما وصلوا إليه، ولا تمامَ في التعبير لما في دواخلهم من معنى وحق وحقيقة.
وهناك سؤالٌ يحشر نفسه أيضًا: ما علاقة التصوّف بالأديان؟
يُمكن القول عن التصوّف بأنه عابر للأديان السماوية منها والوضعية، حتّى اللا دين! فهو يشكّل بُنية مختلفة عمّا تتبناهُ الأديان من مفاهيم، نظرًا لفردانيته وسموّه الداخلي، وحين يصل إليه أي امرءٍ يولد مع الوصول عدمية التبشير لما وصل إليه، وهو واعٍ تمامًا بأن حقيقة ما أدركه خاصٌّ بذاته التي انتقلت في رحلته (الطريقة) من الجزئي للكلّي من كونها وسيلة للوصول إلى الغاية إلى اتحاد الوسيلة والغاية فيها، وهو ما يجعلهم في معظم الأحيان، ينعزلون عن الناس.
إذًا يمكن للمتصوف أن يعتنق أي دين أو عدة أديان، لكنه يتجاوز منطق الأشياء فيها وتبيانها وغاياتها، ويتّخذ له مفاهيم تبلورت في داخله نتيجة للوعي الذي أصبح عليه واتّحاده مع المطلق. ويمكن أيضًا أن يكون المتصوّف بلا دين ويظل على صوفيّته، وهنا يتمثل المطلق معنىً معين،
والبحث عن معنى يمثّل تاريخ الإنسان الروحي، وما الأديان إلّا نتاج ذلك.
---------------
"أُحدّق في العالم بوضوح وهدوء ثم أقول:
كل هذا الذي أراه وأسمعهُ وأتذوقهُ وأشمّهُ وألمسهُ هو من صنع عقلي. الشمس تصعد وتهبط داخل جمجمتي، من أحد صدغيَّ تشرق وفي الأخرى تغيب. في عقلي تلمع النجوم، الأفكار والناس والحيوانات تُرعى داخل رأسي الفاني. نحيبٌ وأغنيات تملأ تجاويف أذني اللولبية فيضطرب الهواء للحظة، ينطفئ العقل فيختفي كل شيء.. السماوات والأرض.
يهتف العقل.. أنا وحدي الموجود."
ما كُتب في الأعلى اقتباسًا من كتاب تصوّف منقذو الآلهة للكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازنتزاكيس، يوصف فيه بعمق مكثّف الحالة الصوفية التي تعتري المتصوف حين يصل إلى مرحلة الالتحام بالمطلق فيتناغم الوجود مع ذاته التي لا يشعر بها كذاتٍ منفصلة، لقد فُنيت تماماً، إذ أنها التحمت وتوحدت مع الوجود والمطلق فلا يشعرن بها إلّا مع استشعار الوجود داخله. وفي هذا سموٍ وتعالٍ عن بعض الأنماط الدنيوية. فلا ينزلق مع مُتع الدنيا، حتى إذا انتصر لا يصيبه منه انتشاءًا ولا غرور، ولا ينكسر إن انهزم، فلا ينغلق على نفسه بمشاعر الأسى والحزن. بمعنى أدق: حين بذل روحه نحو المطلق تعالت نفسه عن هذه المشاعر الدنيوية لأنه شعر بدونية أناه وهي تنزلق نحوها، وفي هذه الحالة استشعارٌ مفرطٌ للحرية، لأنه لم يعد الجزئي الذي يسعى للوصول إلى المطلق، ولا هو الوسيلة للوصول إلى الغاية، بل هو الوسيلة والغاية في نفس الوقت، وهو الجزئي والكلّي أيضاً، أي أنه هو غاية وجوده وتعني أيضاً هو المطلق. وفي ذلك كتب جوستاين غاردر في روايته الفلسفية "عالم صوفي" وهنا أقتبس "يحاول المتصوف أن يصل إلى الله بحبٍ ليتّحد معه، حتى يصل إلى درجة يقول فيها أنا الله" وفي تراثنا الصوفي الإسلامي كثيرٌ من هذه التمظهرات والتمثّلات التي تعتري المتصوفة أمثال الحلّاج والبسطامي وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم. فالحلاج أشتهر عنه وهو يقول "أنا الحق" وموضعٍ آخر وهو يقول:
عجبتُ منك ومنّي
يا منية المتمني
أذنيتني منك حتّى
ظننتُ أنّك أنّي
وقال أيضاً:
رأيتُ ربّي بعين قلبي، فقلت من أنت؟
قال أنت!
فليس للأين منك أينٌ، وليس أينٌ بحيثُ أنت!
ويأتي السؤال: كيف يصل المتصوف إلى هذه الحالة وما هي الوسائل والطرق التي يتّخذها للوصول؟
قال أحد كبار المتصوفة لمريده ذات يوم (إذا استطعت بذل الروح فتعال، وإلّا فل تشتغل بترهات الصوفية!)
للوصول إلى هذه الحالة الصوفية لا توجد طرق محددة. فهي متعلقة بالذات المتصوفة نفسها باعتمادها كليًا على الحس والحدس والتأمّل العميق للوجود ولذاته الداخلية، ومعنى ذلك أنها لا تقوم على مقدمات بحثية للوصول، ولا تلتفت لمقولات قابلة للأخذ والرد ولا تصل إليها. فالطريق في نهاية هذه الرحلة الروحية هو الاتحاد.
لطالما كانت هذه الرحلة شاقّة على نفس المتصوف، ومعاناته في الطريق تشكّل وفق تراكم تجربته الخاصة حكاية ذات رمزية عميقة، يتسامى بها، والحكاية كما يقول الصوفي الجنيد جند من جنود الله. وهذه الطريق ليست سوى نزع القشور الحياتية التي أُلصقت به، والتصوّرات القبلية عن الوجود والمطلق، حتى القيّم الأخلاقية المؤطرة بزمانه ومكانه أيضاً يتعرّى منها، ويتعرّى عن كل ما هو جزئي، ويتّحد من المطلق اللا نهائي الذي يتّخذ صورة الحق دائماً. وهنا تتساوى الذات الصوفية مع معايير الحق والحقيقة والمطلق.
وفي هذه الحالة لا تبقى المفاهيم ذاتها المتعارف عليها اصطلاحًا، كمن ينظر للوجود بعين المفارق الذي أوجده من شدّة اتحاده له، وفي هذا تتعمّق الرؤية وتتّسع ومن يقرأ وقفات الصوفي النفّري ومحاوراته يرى تجاوز الأبعاد الاصطلاحية والبيانية والبرهانية وغايات بعض المسلّمات في الفكر الديني الإسلامي، لأنه تحرّر منها، إلى مفاهيم مستخلصة من ذاته التي تشكّلت في الطريق واتّحدت مع المطلق، فتتجلى الحقيقة على لسانه من منطق الإخلاص لحقيقة المطلق، لا الإخلاص لحقيقة الأيديولوجيا واستخدامها للمحاجّة والمخاصمة والحُكم على الآخرين. لذلك تبقى كتابات المتصوفة قابلة للتأويل ودائمة التأمل، ويمكن الاستلهام منها، لما فيها من عُمق وكثافة للمعنى داخلها، ورغم هذا فالصوفي لا يقول كل شيء أدركه، لأن اللغة في أحايين كثيرة لا تحتمل ما يصل إليه، كما قال النفرّي في ذلك (رأيت الأبد، ولا عبارة في الأبد) فما كتبه المتصوفة مقاربة لما وصلوا إليه، ولا تمامَ في التعبير لما في دواخلهم من معنى وحق وحقيقة.
وهناك سؤالٌ يحشر نفسه أيضًا: ما علاقة التصوّف بالأديان؟
يُمكن القول عن التصوّف بأنه عابر للأديان السماوية منها والوضعية، حتّى اللا دين! فهو يشكّل بُنية مختلفة عمّا تتبناهُ الأديان من مفاهيم، نظرًا لفردانيته وسموّه الداخلي، وحين يصل إليه أي امرءٍ يولد مع الوصول عدمية التبشير لما وصل إليه، وهو واعٍ تمامًا بأن حقيقة ما أدركه خاصٌّ بذاته التي انتقلت في رحلته (الطريقة) من الجزئي للكلّي من كونها وسيلة للوصول إلى الغاية إلى اتحاد الوسيلة والغاية فيها، وهو ما يجعلهم في معظم الأحيان، ينعزلون عن الناس.
إذًا يمكن للمتصوف أن يعتنق أي دين أو عدة أديان، لكنه يتجاوز منطق الأشياء فيها وتبيانها وغاياتها، ويتّخذ له مفاهيم تبلورت في داخله نتيجة للوعي الذي أصبح عليه واتّحاده مع المطلق. ويمكن أيضًا أن يكون المتصوّف بلا دين ويظل على صوفيّته، وهنا يتمثل المطلق معنىً معين،
والبحث عن معنى يمثّل تاريخ الإنسان الروحي، وما الأديان إلّا نتاج ذلك.
---------------
Image: https://unsplash.com/photos/KOq1Hn_M0v0?utm_source=unsplash&utm_medium=referral&utm_content=creditShareLink
التعليقات