"يا خالق الأشياء في نفسه
أنت لما تخلق جامع"
ابن عربي
وحدة الوجود في صورة الفلسفة:
وحدة الوجود مذهب فلسفي له امتدادات من الفلسفة الأولى في اليونان ثم مع أفلوطين - مع بدء أفول الفلسفة اليونانية - الذي تبلورت معه فكرة شمولية ووحدة الوجود باعتبار أن الوجود الحقيقي هو الوجود العلوي وهو العالم المعقول. والعالم السفلي هو فيض هذا العالم الحقيقي الذي يتشكل عبر الأقانيم الثلاثة الآتية:١) الواحد: بوصفه المركز الذي تنبثق منه كل الأشياء عبر الفيض. ووحدانيته تعني وحدته وشموليته الكلّية لكل الأشياء. أي أن كل الأشياء أصلها واحد وهذا الأصل فوق ماهيتها. لأن صورة الشيء وماهيته يعطيها له الواحد.
٢) الروح: وهي من تمثل كمال الأشياء لتفيض من الواحد مركز الأشياء جميعاً. أي أن الأشياء قبل أن تفيض من الواحد تنبعث الروح للأشياء لتصبغها بالكمال لتفيض. فهو موجود بفعل الواحد. ولكن الواحد وجوده ذاتياً. فهو موجود فقط لأنه الواهب والأعظم والكل الجامع لكل شيء. وهذه الروح هي من عطايا الواحد للأشياء.
٣) النفس: وهي من تمثل الجزء الأخير من الأقانيم الثلاثة في العالم الحقيقي بالنسبة لأفلوطين. لكنها تمثل الجزء الأول بالنسبة للعالم السفلي. فهي تعتبر حلقة الوصل بين العالم العلوي والعالم السفلي. أي أنها مرتبطة بالعالمين كما أنها تحتكم لمعايير العالم السفلي الزمانية والمكانية عكس الواحد والروح اللتان تنتفي فيهما هذه المعايير.
ولعل هذه الفكرة أضحت قاعدة انطلقت منها عدد من الفلسفات - اللاهوتية منها - والأديان. وأهمها فلسفة سيبنوزا في العصر الحديث. فسبينوزا يعتقد بوحدة الوجود بوصفه وجوداً واحداً ليس فيه اثنان. وهو شموليٌ كلّي لكل الأشياء. لكن سبينوزا انصدم مع المؤسسة الدينية اليهودية والمسيحية باعتبارها أديان تعتقد بوجود الإله المفارق عن الوجود - هو الذي أوجد الوجود. ومع اتّساع أعداد المؤمنين بالإله الواحد المفارق عن الوجود وأفول الديانات الوثنية في أوروبا تحديداً، اتّخذت صورة وحدة الوجود شكلاً يتناسب مع عقائد اللحظة فقال: أن الوجود بما فيه وكلُّ ما فيه - ونحن البشر منه - هو صورة الله المتجسّدة. أي أن الله ليس له وجود قائم بذاته فهو والطبيعة والوجود بصورة عامة وحدة واحدة.
وحدة الوجود في صورة التصوف الإسلامي:
المفهوم الفلسفي حول وحدة الوجود تسرّب للتصوف الإسلامي فتارةً تجده يختلف من حيث الجوهر وتارة يتلائم معه. فوحدة الوجود بالنسبة للتصوف عند البعض يشكّل وحدة معنوية. أي أنها تمتثل بوجود إله قائم بذاته والوجود متوحد به معنوياً. ستجد ذلك عند عدد من كبار المتصوفة ممن وصل بهم السمو الروحي للقول بالوحدة مع الله. لكنها وحدة معنوية لم تستوعبها المؤسسة الدينية الإسلامية فزندقت وكفرت قائليها كالحلاج والبسطامي وابن الفارض وغيرهم ممن صرّح شعرياً بهذا التوحّد مع الله المطلق. كما قال الحلاج في تجلٍّ شعري:رأيت ربي بعين قلبي فقلت من أنت قال أنت!
فليس للأين منك أينٌ وليس أينٌ بحيث أنت!
وقال أيضاً:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
روحان حللنا بدناً
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته كان أنا
ومع ابن عربي تبلور هذا المفهوم بشيء من الفلسفة والدين ليتشكل كمفهوم صوفي جريء تبيانه في كتابه "فصوص الحكم" باعتبار أن ما هو موجود هو تجلِّ الله. والوجود هو حقيقةٌ واحدة في الجوهر والذات. وهي كثيرة بأسمائها والصفات لكن لا تعدد فيها فهي واحدٌ أحد. وهي قديمة أزلية لا تتغير مهما تغيرت الصور الوجودية لها. وهي أيضاً تشكّل الإنسجام الخفي بين المتناقضات. فهي الأول والآخر والظاهر والباطن والقديم والحادث والحق والخلق والواحد والكثير. فكلّه في الجوهر واحد. وبه قال:
سبحان من خلق الأشياء وهو عينها
فما نظرت عيني إلى غير وجهه
ولا سمعت أذني خلاف كلامه
وقبل ابن عربي كان المفهوم يتمظهر في أشعار المتصوفة الأوائل كالحلاج والبسطامي كوحدة معنوية روحية. وابن عربي أطلقها طلقة جريئة بوحدة الحق والخلق. فصرخة الحلاج (أنا الحق) هي اندماج ووحدة الناسوت باللاهوت وصرخة ابن عربي اندماج واتحاد الكثرة بالواحد. وهذا المفهوم ليس نكراناً للذات الإلهية بوصفها وجوداً قائماً بذاته. بل يعتبر الله الحقيقة الأزلية الذي انبعتث منها كل الأشياء وهو أصلها ووجودها الحقيقي وفوق ماهيتها. وفي ذلك يقول:
كل ما أذكره من طللٍ
أو ربوع أو مغان كلُّ ما
أو خليل أو رحيل أو ربى
أو رياض أو غياض أو حمى
أو نساء كاعبات نهّد
طالعات كشموس أو دمى
صفة قدسيّة علويّ
أعلمت أنّ لصدقي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهرها
و اطلب الباطن حتى تعلما
َ
التعليقات