كتبته: نهى خالد
يجيب علم الاجتماع على هذا السؤال بعدد من الدراسات التي تشرح تأثير العوامل المحيطة على قرارات المرء واختياراته فيما يعرفها علماء الاجتماع بالآيديولوجيا، ومدى تداخلها وهيمنتها على شكل الحياة في مجتمعنا، وبالتعمّق في أسلوب حياة شعوب الدول الواقعة ضمن أدنى سلّم مؤشر دافوس لجودة التعليم أو الخارجة عنه. نلحظ هيمنة العوامل الخارجية على قرارات الشخص واختياراته بشكل مفرط، إذ تغيب الفروقات الفردية التي يبنيها الفرد وفقاً لطباعه ورغباته في اختيار شكل الحياة، الشريك، التعليم الذي يريد، والمعرفة التي يستقي، ويسود رأي الجماعة في هذا الشأن، فكيف تم بناء هذا الوعي الجمعي وأدلجته على نحوٍ سيء حتى بات الأفرادُ نسخاً متشابهة؟! تستخدم بعض الأنظمة التعليم كأداة لتمرير الآيديولوجيا التي تتبناها وتعدُّ من أقوى الأدوات. فلا يعود التعليم عملية حُرّة تمنح المتلقي آفاقاً واسعة للتفكير والإبداع وتمكّنهُ من التعامل مع المعرفة بوصفها معرفة حرّة، وليس مجرد عملية لامتصاص نسق تفكير مغلق باسم المعرفة، إذ نلحظ مراحل التدجين التي يمر بها الطلبة منذُ الخطوة الأولى في طريق التعليم العام حيث لا تعتمد المناهج على ثقافة إثارة السؤال و حرية الرأي وتحفيز الشك والمنطق، بل تنتهج أساليب ملقِّنة تجرم الخروج عن النص وتعتبر الأفكار الجديدة شذوذًا أو جدلاً لا طائل منه وتجعل من علاقة الطالب بمعلمه علاقة العبد بمولاه لا يقدر أن يحاوره في شيء، وهذا مما أنتج لنا أجيال مكررة تتنافس على الكم لا الكيف وعلى التحصيل الصوري أكثر من العمق المعرفي الذي ينبغي على الطالب أن يصل إليه في نهاية مراحله التعليمية. وتأطير الطلاب والطالبات في أُطر معينة مرسومة لهم سلفاً لشكل الحياة التي يجب أن يمضون فيها والتخصصات التي يرغبها المجتمع والأهل دون سبر أغوار هذه الأنفس اللينة والقابلة للإبداع والتشعب متى ما خاضت في سبل تميل إليها دون ضغط أو توجيه قمعي خلق شريحة من الشباب المتردد التائه بين ما يريد وما يريدونه الآخرون منه ففقد نفسه. فمثلاً نجد أن الكثير من الطلبة يميلون للتخصصات الهندسية و الصحية لا رغبة منهم ولكنها رغبة البيئة المحيطة والضاغطة - بوعي أو بدونه - على اختياراتهم مما أنتج فائضاً لا تستوعبه الخانات الوظيفية وضعفاً ملحوظاً في مستوى التميز بهذه المجالات. كما أن إهمال التخصصات الأخرى خلق فجوة لامس أثرها المجتمع وأصبح شبه مغيّب عن نعمة العلوم الأخرى بحجة النظرة القاصرة لمجالات العمل و الدخل المادي الذي قد يؤولون إليه ما إذا خرج اختيارهم عمّا هو رائج في الجماعة، متناسين أثر البراعة والرغبة في تكوين فرص ذهبية لا تُنال إلا بالتوق والإحسان.
البيئة المحيطة ليست الملقن الوحيد للماهية التي يجب أن يكون عليها الشباب في سن التعليم، إذ ومن جهة أخرى نلحظ أثر السياق الذي تسير فيه المناهج التعليمية، وأخص بذلك المناهج الجامعية؛ ذلك أن الجامعات تعد معاقل إنتاج للمعرفة الحرة والمتنوعة أكثر من كونها مصنع تكرير له كما هو حال المستويات التعليمية الابتدائية، فهذه الجامعات تتخذ أساليب التلقين واجترار المعلومات ذاتها على مر السنين دون أن تنتج جديداً أو تمنح للطالب أدوات تمكنه من تفكيك هذه المعرفة وسبر أغوارها ومعرفة الطرق التي عليه كطالب علم، أن يبحث بها عن المعلومة ويصل إليها و يتعامل معها أمام هذا الكم الهائل من المعلومات التي يتداخل بين ما تمنحه إياه الجامعة وما يتلقاه من البيئة الخارجية عبر وسائل الاعلام والتكنولوجيا الحديثة، فأمسى الطالب مجرد أداة لتكرار الأساليب. فما يتلقّاه يقوم بإعادة تكراره دون وعي منه بالآثار المترتبة على ذلك وأصبح وسيلة لتمرير الأدلجة ذاتها وأصبح الحال كمن يدور في دائرة مفرغة لا خلاص منها! هذه الأساليب التعليمية إنما أوجدت أشخاصا لديهم معرفة ناقصة مشوهة لا يعرفون كيف يتعاملون معها وخلقت متعالمين مزهوين بالدرجات العلمية الممنوحة لهم دون أن يكون لهم أدنى أثر في زيادة المعارف ورفع جودتها وأدخلتهم من جديد في دوامة الخضوع تحت دائرة الأدلجة التي يمررونها لمن بعدهم بذات الطريقة التي استقوها هم من قبل فكانت النتيجة بروز نماذج تحمل عقولاً محشوة بالمعرفة الراكدة بعيدة كل البعد عن حرية الفكر، تُسيّر ولا تُخير كلٌ بحسب القوى الكبرى العليا التي تخضع مصالحه تحت وطأتها، وأساليب ركيكة تحترف جمع المعلومات وإعادة نشرها كما هي في قوالب جامدة دون اعتبار لحذاقة العقل البشري الذي منحه الله لنا ودون إطاقة الاستماع لأي آراء خارجية أخرى بسبب غرابتها وبعدها عن محيط ما يعيه.
إن المعرفة المؤدلجة التي تمر عبر مناهج و وسائل التعليم في هذه الدول لها أسباب لا حصر لها تستحق انتباه الباحثين و استجابة الجهات المعنية في سبيل التحسين، إلا ان المعضلة الأكبر تتجلى فيما إذا كانت هذه الأدلجة مقصودة لأغراض يغيب عن الوعي الجمعي استيعابها والكامنة في العبث بالعملية التعليمية في الجامعات على وجه الخصوص بغية إضعاف التقدم الوطني وحصره في حدود مرسومة له سلفا خيفة أن يكون تمكنه المعرفي انطلاقة حرة وعميقة في نقد الأوضاع من حوله وخلق ثورة فكرية جمعية تخلخل كيان غرماء هذه البلاد، كيف لا والمعرفة الحقيقية سلاح تتزود به الأمم لبناء أوطانها وتتسابق في الدول لإنتاج الجديد في شتى المجالات حتى يكون لها سبق الوصول والفضل ناهيك عن رجاحة الفهم والوعي بما يدور من حولها، حتى أن الزعيم الصهيوني (حييم وايزمان) قال عند افتتاح الجامعة العبرية عام 1924م : "الآن تم بناء الدولة" إن ما تمر به العملية التعليمية من أدلجة مقصودة وغير مقصودة سواء على نطاق البيئة الاجتماعية أو المناهج التعليمية أو غيرها من الأسباب لا تحتاج إلى ذكاء بالغ لفهمها بل يكفي أن يعمل مفكري هذه البلاد - وإن قلّوا - على مكافحة تفشي هذا النوع من التعليم المشوّه عبر استخدام أدواتهم وأصواتهم لنقد الوضع الحاصل ونشرها على نطاق المجتمعات البسيطة بين الطلبة والعامة بلغة يستطيع الأغلبية استيعابها وتكرارها على المسامع ذلك أن التكرار يكاد أن يكون اللغة الوحيدة المؤثرة على الشخص المؤدلج وكما أننا نحارب الأدلجة بأخرى تحمل فكراً أكثر تحرراً وأقل قيوداً، إذ يمكننا أن نشبه وضع مفكرينا و مؤثرينا الذين نعول على وعيهم بالطبيب المعالج للتشوهات المعرفية التي نعيشها، يقول أحدهم: "التعليم الرديء؛ هو أسوء من الأمية؛ لأنه يُوهِم بالقُدرة؛ مع أنه عاجز. فيصبح بالتالي مصدرًا لنشر شتّى الأمراض في المجتمع."
*هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي الثقافي والفنون (آفاق)
*Photo by Taylor Flowe on Unsplash
"إن الآيديولوجيا عملية ذهنية يقوم بها المفكر وهو واع، إلا أن وعيه زائف لأنه يجهل القوى الحقيقية التي تحركه، ولو عرفها لما كان فكره آيديولوجيًّا." - فريدريك إنجلزفي ظل التسارع التقني واتساع رقعة العولمة من حولنا يصبح الفرد على اطلاع أكبر بمجريات الحياة واختلافاتها مما يدفعه للتساؤل: هل نحن نختار الحياة التي نعيشها أم أنها تفرض علينا دون وعي منا؟!
يجيب علم الاجتماع على هذا السؤال بعدد من الدراسات التي تشرح تأثير العوامل المحيطة على قرارات المرء واختياراته فيما يعرفها علماء الاجتماع بالآيديولوجيا، ومدى تداخلها وهيمنتها على شكل الحياة في مجتمعنا، وبالتعمّق في أسلوب حياة شعوب الدول الواقعة ضمن أدنى سلّم مؤشر دافوس لجودة التعليم أو الخارجة عنه. نلحظ هيمنة العوامل الخارجية على قرارات الشخص واختياراته بشكل مفرط، إذ تغيب الفروقات الفردية التي يبنيها الفرد وفقاً لطباعه ورغباته في اختيار شكل الحياة، الشريك، التعليم الذي يريد، والمعرفة التي يستقي، ويسود رأي الجماعة في هذا الشأن، فكيف تم بناء هذا الوعي الجمعي وأدلجته على نحوٍ سيء حتى بات الأفرادُ نسخاً متشابهة؟! تستخدم بعض الأنظمة التعليم كأداة لتمرير الآيديولوجيا التي تتبناها وتعدُّ من أقوى الأدوات. فلا يعود التعليم عملية حُرّة تمنح المتلقي آفاقاً واسعة للتفكير والإبداع وتمكّنهُ من التعامل مع المعرفة بوصفها معرفة حرّة، وليس مجرد عملية لامتصاص نسق تفكير مغلق باسم المعرفة، إذ نلحظ مراحل التدجين التي يمر بها الطلبة منذُ الخطوة الأولى في طريق التعليم العام حيث لا تعتمد المناهج على ثقافة إثارة السؤال و حرية الرأي وتحفيز الشك والمنطق، بل تنتهج أساليب ملقِّنة تجرم الخروج عن النص وتعتبر الأفكار الجديدة شذوذًا أو جدلاً لا طائل منه وتجعل من علاقة الطالب بمعلمه علاقة العبد بمولاه لا يقدر أن يحاوره في شيء، وهذا مما أنتج لنا أجيال مكررة تتنافس على الكم لا الكيف وعلى التحصيل الصوري أكثر من العمق المعرفي الذي ينبغي على الطالب أن يصل إليه في نهاية مراحله التعليمية. وتأطير الطلاب والطالبات في أُطر معينة مرسومة لهم سلفاً لشكل الحياة التي يجب أن يمضون فيها والتخصصات التي يرغبها المجتمع والأهل دون سبر أغوار هذه الأنفس اللينة والقابلة للإبداع والتشعب متى ما خاضت في سبل تميل إليها دون ضغط أو توجيه قمعي خلق شريحة من الشباب المتردد التائه بين ما يريد وما يريدونه الآخرون منه ففقد نفسه. فمثلاً نجد أن الكثير من الطلبة يميلون للتخصصات الهندسية و الصحية لا رغبة منهم ولكنها رغبة البيئة المحيطة والضاغطة - بوعي أو بدونه - على اختياراتهم مما أنتج فائضاً لا تستوعبه الخانات الوظيفية وضعفاً ملحوظاً في مستوى التميز بهذه المجالات. كما أن إهمال التخصصات الأخرى خلق فجوة لامس أثرها المجتمع وأصبح شبه مغيّب عن نعمة العلوم الأخرى بحجة النظرة القاصرة لمجالات العمل و الدخل المادي الذي قد يؤولون إليه ما إذا خرج اختيارهم عمّا هو رائج في الجماعة، متناسين أثر البراعة والرغبة في تكوين فرص ذهبية لا تُنال إلا بالتوق والإحسان.
البيئة المحيطة ليست الملقن الوحيد للماهية التي يجب أن يكون عليها الشباب في سن التعليم، إذ ومن جهة أخرى نلحظ أثر السياق الذي تسير فيه المناهج التعليمية، وأخص بذلك المناهج الجامعية؛ ذلك أن الجامعات تعد معاقل إنتاج للمعرفة الحرة والمتنوعة أكثر من كونها مصنع تكرير له كما هو حال المستويات التعليمية الابتدائية، فهذه الجامعات تتخذ أساليب التلقين واجترار المعلومات ذاتها على مر السنين دون أن تنتج جديداً أو تمنح للطالب أدوات تمكنه من تفكيك هذه المعرفة وسبر أغوارها ومعرفة الطرق التي عليه كطالب علم، أن يبحث بها عن المعلومة ويصل إليها و يتعامل معها أمام هذا الكم الهائل من المعلومات التي يتداخل بين ما تمنحه إياه الجامعة وما يتلقاه من البيئة الخارجية عبر وسائل الاعلام والتكنولوجيا الحديثة، فأمسى الطالب مجرد أداة لتكرار الأساليب. فما يتلقّاه يقوم بإعادة تكراره دون وعي منه بالآثار المترتبة على ذلك وأصبح وسيلة لتمرير الأدلجة ذاتها وأصبح الحال كمن يدور في دائرة مفرغة لا خلاص منها! هذه الأساليب التعليمية إنما أوجدت أشخاصا لديهم معرفة ناقصة مشوهة لا يعرفون كيف يتعاملون معها وخلقت متعالمين مزهوين بالدرجات العلمية الممنوحة لهم دون أن يكون لهم أدنى أثر في زيادة المعارف ورفع جودتها وأدخلتهم من جديد في دوامة الخضوع تحت دائرة الأدلجة التي يمررونها لمن بعدهم بذات الطريقة التي استقوها هم من قبل فكانت النتيجة بروز نماذج تحمل عقولاً محشوة بالمعرفة الراكدة بعيدة كل البعد عن حرية الفكر، تُسيّر ولا تُخير كلٌ بحسب القوى الكبرى العليا التي تخضع مصالحه تحت وطأتها، وأساليب ركيكة تحترف جمع المعلومات وإعادة نشرها كما هي في قوالب جامدة دون اعتبار لحذاقة العقل البشري الذي منحه الله لنا ودون إطاقة الاستماع لأي آراء خارجية أخرى بسبب غرابتها وبعدها عن محيط ما يعيه.
إن المعرفة المؤدلجة التي تمر عبر مناهج و وسائل التعليم في هذه الدول لها أسباب لا حصر لها تستحق انتباه الباحثين و استجابة الجهات المعنية في سبيل التحسين، إلا ان المعضلة الأكبر تتجلى فيما إذا كانت هذه الأدلجة مقصودة لأغراض يغيب عن الوعي الجمعي استيعابها والكامنة في العبث بالعملية التعليمية في الجامعات على وجه الخصوص بغية إضعاف التقدم الوطني وحصره في حدود مرسومة له سلفا خيفة أن يكون تمكنه المعرفي انطلاقة حرة وعميقة في نقد الأوضاع من حوله وخلق ثورة فكرية جمعية تخلخل كيان غرماء هذه البلاد، كيف لا والمعرفة الحقيقية سلاح تتزود به الأمم لبناء أوطانها وتتسابق في الدول لإنتاج الجديد في شتى المجالات حتى يكون لها سبق الوصول والفضل ناهيك عن رجاحة الفهم والوعي بما يدور من حولها، حتى أن الزعيم الصهيوني (حييم وايزمان) قال عند افتتاح الجامعة العبرية عام 1924م : "الآن تم بناء الدولة" إن ما تمر به العملية التعليمية من أدلجة مقصودة وغير مقصودة سواء على نطاق البيئة الاجتماعية أو المناهج التعليمية أو غيرها من الأسباب لا تحتاج إلى ذكاء بالغ لفهمها بل يكفي أن يعمل مفكري هذه البلاد - وإن قلّوا - على مكافحة تفشي هذا النوع من التعليم المشوّه عبر استخدام أدواتهم وأصواتهم لنقد الوضع الحاصل ونشرها على نطاق المجتمعات البسيطة بين الطلبة والعامة بلغة يستطيع الأغلبية استيعابها وتكرارها على المسامع ذلك أن التكرار يكاد أن يكون اللغة الوحيدة المؤثرة على الشخص المؤدلج وكما أننا نحارب الأدلجة بأخرى تحمل فكراً أكثر تحرراً وأقل قيوداً، إذ يمكننا أن نشبه وضع مفكرينا و مؤثرينا الذين نعول على وعيهم بالطبيب المعالج للتشوهات المعرفية التي نعيشها، يقول أحدهم: "التعليم الرديء؛ هو أسوء من الأمية؛ لأنه يُوهِم بالقُدرة؛ مع أنه عاجز. فيصبح بالتالي مصدرًا لنشر شتّى الأمراض في المجتمع."
*هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي الثقافي والفنون (آفاق)
*Photo by Taylor Flowe on Unsplash
التعليقات