التبشير بالإسلام في المونديال! (فشل الحداثة، وتعبير عن إحباط حضاري)

شارك:

 بالتزامن مع نهائيات مباريات كأس العالم في قطر، اكتظت مواقع التواصل الاجتماعي بصور الداعية الإسلامي الهندي ذاكر نايك وثلة من الدعاة لدعوة غير المسلمين للإسلام، ممن حضروا لمشاهدة مباريات المونديال من كل أصقاع العالم، وهو حدثٌ قد يكون زوبعة إعلامية لا يمت للواقع بصلة، حيثُ انتشرت عدداً من الفيديوهات المضللة التي لم تحدث في قطر قبل وأثناء هذا الحدث الكروي العالمي، لكنها حظيت بتفاعل كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت بشكل واسع.

المفارقة في مونديال قطر:

إن المتأمل لهذه الحملة يرى ثمّة مفارقة بين اللوحة الفنية التي رسمتها قطر في حفل افتتاحية البطولة، خاصة الحوار الذي دار بين الفنان العالمي مورغان فريمان والشاب القطري الداعي للتسامح والتعايش بين الثقافات الإنسانية، ودونما إشارةٍ لإعلاء ثقافة على أخرى. وتباينت الآراء حول الدافع وراء هذه الحملة التي ذهب بعضهم في تأويلها على أنها تعكس حقيقة قطر الداعمة للإسلام السياسي، والبعض يرى أنّها تهدف إلى تحييد فئة (رجال الدين) الذين صوّروا المشهد على أنه انتصارٌ إسلاميٌّ في قطر، وهي طريقة ذكيّة لفئة قد تهدد نجاح هذا الحدث، في كل الأحوال.. الحملة في الجهة الأخرى تعكس فشل مشروع الحداثة في الذهنية الإسلامية.

الحداثة والتبشير:

إن مشروع الحداثة بوصفه مشروع يُعنى بتضمين مفاهيم ومبادئ وقيم في بناء الدولة والمجتمع والثقافة تُرسي الحريّة والعقلانية والتسامح التام بين المذاهب والعقائد وهو يعادل النفي لأفكار التسلط الفكري والعقائدي والسياسي. ولعل هذا المشروع يعاني من خلل جوهري وتاريخي عند الذهنية المحكومة بنزعة نفسية مغلقة وأيديولوجيا إسلامية صرف، تعيش وتنتعش على رغبة غير معقولة تتمثل في إرساء سلطة روحية وسلوكية وثقافية مركزية على العالم، وهي رغبة بالضرورة لها أحكامها على الآخر تتمثل الإلغاء والاستعلاء، لتحتكر بدورها النظم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية تستجلبها من أفكار عقدية لها سياقاتها التاريخية وإبرازها بوصفها إرادة أزلية.

إن الغلو الأيديولوجي يقطع أواصر التطور الثقافي المتراكم مع الحضارة الإنسانية، وهي نشطة ومستحكمة في الذهنية الإسلامية، وقادرة على حسم تفاعل المجتمعات الإسلامية مع القيم الحداثية، وتتّسع إلى أبعد من ذلك.. كأن يُمارس التبشير وهو فعلٌ ساد في القرون الوسطية وامتد، تحاول بعضُ الجماعات صبغ العالم أطرها الاجتماعية والثقافية والعقدية، في حين يتعارض هذا الفعل مع التصورّات والقيم الجديدة التي ترى التراث الثقافي من معيار التنوّع الثقافي الذي تحفل به البشرية، لا معيار الصواب والخطأ، ومنها التصوّرات العقدية والطقوسية. والذهنية الإسلامية تعاني من ضعف استيعاب هذه الأفكار، وبالتالي الخروج من بوتقة التفكير الحداثي، واستمرار التعلّق بنمط تفكير قروسطي، وهو وعيٌّ طفوليٌّ بالضرورة، لا يرى في الاختلاف ثراءًا ثقافياً، بل رفضاً للحقيقة التي يمتلكها، ومن هنا تنبع هذه الرغبة الحادة في إرساء مركزية عقدية على كل العالم.

ولعل نظرة الذهنية الإسلامية للحداثة مشوبة بالحساسية والحذر، وهي مسؤولية النخبة المثقفة التي فشلت في تضمين الحداثة الثقافة العربية والإسلامية مما جعلها متأخرة حضارياً، إذ لا مناص من إيجاد صيغة عقلانية للحداثة في تراثنا العربي والإسلامي بوصفه تراكم معرفي، ولا يعني الثبات عند نسق تاريخي معين إلّا قطيعة مع الصيرورة التاريخية للنظم والأخلاق والثقافة، لذا كانت محاولات مالك بن نبي النهضوية لانتشال الأمة من هذا التخلّف الحضاري كانت للتركيز ابتداءًا على النقد الذاتي مدركاً أهميته في تذويب الأنساق التاريخية التي تلقي بثقلها على الحاضر والمستقبل، إذ لا قيمة للنهضة عند أمّة ترى نفسها من خلال الكمال الأخلاقي والثقافي، ولديها الرغبة في صبغها للعالم. ولا مستقبل لأي فكر في العصر الراهن لا يُبنى على احترام حقوق الإنسان الشاملة وثقافته من خلال أسس فكرية تُحدث مشروع التسامح مع الآخر بداعي الثراء والتنوع الثقافي. وما دونها فهي أيديولوجية غريبة ومغتربة عن الزمن الحديث، متخلفة عن السلّم الحضاري أبدت قطيعة مع صيرورة التاريخ للأفكار والأخلاق والثقافة، ولعل الشعور بالتخلف عَكَسَ نفسه في ردة فعل سيكولوجية جماعية خشنة تجاه الآخر.

التبشير ردة فعل للإحباط الحضاري:

إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق أشار فيما يتعلّق بالتبشير، بأن هذه الرغبة في الأساس تنبع من شكٍّ عميق، وشعور بعدم الثقة في صميم العقيدة ويصفها بالمحاولة العاطفية التي تبحث عن إثبات قطعي لحقيقتها، وكما يبدو كل ما ازداد الإحباط الحضاري تنامت الرغبة في التبشير والشعور بالاحتقار والازدراء من الآخر، وقد ينبع من هذا الشعور تبشير طاغٍ، يعبّر عنه هوفر بمقولة (لابد من أن نضم العالم إلينا، أو ندمّره) وهذه الحماسة التبشيرية ليست سوى تعبير عن سخط للعالم الذي يزيد الهوة بينه وبين هذه العقيدة. ولعلَّها – أي الحماسة التبشيرية – ضحية رؤية طوباوية للتاريخ، غير عقلانية، متأزمة وغير فاعلة في النظام العالمي الحديث، غير مؤسسة بمعايير ومنهجية تاريخية مما يجعلها تضمر ازدراء على الحضارة والتحضّر.

الخلاصة.. أن فكرة التبشير تعني انكسار حضاري يُحسب انتصاراً وبطولة في الذهنية الإسلامية المغلقة التي لم تثري نفسها بمنظورات أكثر انفتاحاً وتسامحاً مع الآخر وتعزز فكرة التنوع الثقافي بوصفها ثراءًا إنسانياً يعمّق الحياة، هو انتصارٌ زائفٌ ومعكوس، يعقّد الحياة ويعزز الكراهية فيها والاستعلاء واحتقار الآخرين الذي يتمثل الحرمان الشامل للآخر ويحرم سياقاته التاريخية والأخلاقية والثقافية من البقاء من خلال إطلاق الأحكام الجبرية التهكمّية الإقصائية عليها، وكلها صفات خارجة عن سياق الحضارة والقيم والمبادئ الحداثية، تنم عن نفسية لديها شكّ عميق فيما تعتقد، وإيمانها يتغذّى على إقناع الآخرين باعتناق ما يؤمن به.



التعليقات

الاسم

أخرى,4,إدارة ذاتية,4,تاريخ، فكر، علم اجتماع,2,تعلم,9,علم النفس الإجتماعي,1,علم النفس الإدراكي,7,فلسفة,7,
rtl
item
فطن: التبشير بالإسلام في المونديال! (فشل الحداثة، وتعبير عن إحباط حضاري)
التبشير بالإسلام في المونديال! (فشل الحداثة، وتعبير عن إحباط حضاري)
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh7XDLPlAh3S4vUxdFpibs_GpNX90zWmFs27xiLkRWe_IcQT5LbUYMUW6WpsvkvJs_rePSIOQIomCG5jv5JID9ukkR-cU8mikkPHvNfeSmpYXWJvaWfh4unMcGP6yfOrOta56xB1unTapwQibsx3a4KOsXOgFu2H0Ogb_soRisAoCdPM6yTOj20HJObRA/w454-h336/Untitled-3.png
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh7XDLPlAh3S4vUxdFpibs_GpNX90zWmFs27xiLkRWe_IcQT5LbUYMUW6WpsvkvJs_rePSIOQIomCG5jv5JID9ukkR-cU8mikkPHvNfeSmpYXWJvaWfh4unMcGP6yfOrOta56xB1unTapwQibsx3a4KOsXOgFu2H0Ogb_soRisAoCdPM6yTOj20HJObRA/s72-w454-c-h336/Untitled-3.png
فطن
https://www.fa6n.com/2022/12/Islamic-Daawah-in-the-World-cup.html
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/
https://www.fa6n.com/2022/12/Islamic-Daawah-in-the-World-cup.html
true
3900940133559499526
UTF-8
تم تحميل جميع المقالات لا توجد أي مقالات مشابهة عرض الكل إقرأ المزيد التعليق إلغاء التعليق حذف بواسطة الرئيسية الصفحات المقالات عرض الكل مقترحة لك التسميات الأرشيف البحث جميع المقالات لا توجد أي مقالات مطابقة الرجوع للرئيسية الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر يناير فبراير مارس أبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر الآن قبل دقيقة قبل $$1$$ دقائق قبل ساعة قبل $$1$$ ساعات الأمس قبل $$1$$ أيام قبل $$1$$ أسابيع منذ خمسة أسابيع متابعين تابع هذا المحتوى مقفل الخطوة الأولى: شارك على شبكات التواصل الخطوة الثانية: اضغط الرابط من داخل موقع التواصل Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy قائمة المحتويات