كان الإنسان القديم يحصل على طعامه من خلال قطف وجمع الثمار وصيد الحيوانات، ولهذا يطلق عليه اصطلاحا بـ الصياد-الجامع (Hunter-Gatherer)، وهي عملية مجهدة. فالحصول على الطعام من الغابات والبراري، يعني أن عليه منافسة السباع المختلفة، وكذلك صعوبة القبض على الحيوانات التي تمتاز بسرعتها كالأرانب والغزلان، بالإضافة إلى الظروف البيئية التي قد تزيد من صعوبة حصوله على الطعام كالعواصف والأمطار والتضاريس.
وبالتالي ظل الإنسان على هذه الطريقة من العيش لآلاف السنين، بل لا تزال هنالك بعض القبائل البدائية التي تعيش بهذه الطريقة، وهي موجودة في أماكن متفرقة من بلدان العالم وعلى رأسها أمريكا الجنوبية في قلب أدغال الأمازون أو في وسط أدغال أفريقيا وآسيا.
إن أول ثورة حقيقية حدثت للإنسان وجعلته ينتقل للاستقرار وتكوين الحضارات هي اكتشافه للزراعة قبل حوالي اثني عشر ألف سنة (10.000ق.م).
فبمعرفته للزراعة، واختياره المحاصيل التي توفر احتياجه من الطاقة للعيش والبقاء جعله يستقر حول الأنهار والوديان. فقد تميزت مناطق الأنهار بأنها منبسطة سهلة المشي والبناء عليها وكذلك آمنة بسبب بعدها عن أماكن استيطان الكثير من الحيوانات المفترسة.
أضف إلى ذلك حقيقة أن الزراعة وفرت المحاصيل بكثرة مما يعني أن هنالك طعام يكفي الجميع، بما فيهم الأطفال الصغار، وهذا يعني أنهم غدوا يتكاثرون بشكل أكبر من المجتمعات البدائية، وهو مايعني زيادة سريعة في عدد السكان.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ساهمت الزراعة أيضا بتربية المواشي، فوفرة الطعام لهذه المواشي عنى أن بإمكانهم تربيتها والحصول على لحومها كمصدر أساسي للبروتين؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استفادوا من قوتها في حرث أراضيهم.
وهذا أيضا يقود إلى شيء آخر، وهو أن احتياجهم لحرث هذه الأرض وجني المحاصيل وغيرها من المهام التي تبعت الزراعة والاستقرار دفع بعض أفراد المجتمعات الزراعية إلى احتراف صناعة الأدوات التي تسهل معيشتهم، هذا بالإضافة إلى التنافس على الحصول على مصادر الماء والغذاء والأراضي الخصبة التي قد تظهر بين الحين والآخر بين القبائل والأمم المستوطنة بالقرب منهم مما يعني أيضا زيادة في اختراع الأسلحة والأدوات التي تضمن لهم الإنتصار والأمن والبقاء.
وبالتأكيد لم تنتهِ القصة هنا، فقد كثرت المحاصيل وأصبح صعب إدارتها بالطرق البدائية، أي الاعتماد على ذاكرة الأفراد وقدراتهم الذهنية، فكانت هنالك ضرورة ملحة من اختراع وسيلة أخرى تسهل عليهم ذلك، فكانت الكتابة هي الحل.
فأول مخطوطات كتابية وثقت للتاريخ هي لوحات فخارية سومرية من بلاد الرافدين تعود ربما لفترة 3500ق.م، وكانت مكتوبة بالمسمارية القديمة. وقد كان بعضها كتبت بشكل بسيط ومتكرر مما قد فسره البعض على أنها لتعليم الأطفال الكتابة، كما أنه ظهر لبعضها وجود رسم لرأس شعير مع كتابات بجواره وهو ما قد ترجم إلى تعداد لمحاصيل الشعير التي تم حصدها وتخزينها. وقد كان انتقال الكتابة لباقي الأمم موضع خلاف، فهل تطورت الكتابة بطريقة مستقلة؟ أم أنها انتقلت من السومريون إلى بقية أنحاء العالم؟
ويبدو أن تطور الكتابة في البدايات كان بشكل مستقل، فلا يوجد ارتباط مباشر بين شكل الكتابة الهيروغليفية والكتابة السومرية الصورية، وبالتأكيد لا يوجد بينها وبين الكتابة الصينية -التي ظهرت بعيدا- أي صلة، بل وما رجح هذه الحقيقة هو معرفة المكسيك القديمة للكتابة رغم عدم ارتباطها بالعالم القديم.
الإنسان الأسد، أقدم منحوتة سجلها التاريخ-ألمانيا
|
بالتأكيد مع تكاثر أعداد السكان، ومع صراعات القبائل والأمم فيما بينها طمعا في السلطة والاستيلاء على مصادر الغذاء والأموال، كل ذلك خلق ضرورة مستمرة لإحكام قبضة الحكام وتأمين رعاياهم، مما يعني الاستمرار في التطور التكنولوجي، والسياسي، والديني والقانوني.
وكل ما التهمت أمةٌ أمةً أخرى أضافت لها شيئا من معارفها وطرق عيشها، واكتسبوا هم شيئا من معارفها في علاقة تبادلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وما التاريخ الإسلامي عنّا بغريب.
وهكذا استمر الأمر إلى يومنا هذا، مع اختلاف أن في القرون المتأخرة ظهرت أمم تقلل من قيمة الأديان ودورها في الحكم وتعزز من طرق اكتساب المعارف بعيدا عنها، على اعتبار أن الأديان تعتمد على المشاعر والخيال دون وضع أي اعتبار للحواس الأمر الذي يختلف عن الطرقية العلمية، وهكذا ظهرت مظاهر جديدة للحكم بعيدا عن الأديان، وظهرت معها الثورة الصناعية وأصبحت هنالك أمم جديدة لديها قدرات كان ليعتبرها الإنسان القديم سحرا شيطانبا أو أفعالا إلٰهية.
هذه هي قصة الحضارة باختصار، فكل ما توصل إليه الإنسان هو نتاج تراكمات معرفية على مر القرون، إلا أن بعض الظروف والعوامل سارعت في تطورها، فغدت الحضارة تتطور بشكل أسّي، كل مرحلة تزيد فيها المعلومات وتكتسب المعارف بوتيرة أسرع من سابقتها، ولعل أعظم ما اكتشفه الإنسان هو الزراعة، وأعظم ما اخترعه هو استخدام الإشارة الصورية لحفظ اللغة والتي هي الكتابة. فالأولى سهلت سبل العيش وأدت إلى استقرار الإنسان وسرعة تكاثره، والثانية أعطته الوسيلة لإدارة شؤونه ونقل معارفه عبر الأمكنة والأزمان.
وبلا شك فهناك المزيد من الاكتشافات والاختراعات والوسائل التي ظهرت في الماضي ولا زالت تظهر مساهمة في تقدم الحضارة الإنسانية، كالنقود بدلا من المقايضة بالسلع، وكذلك اكتشاف الكهرباء وتوظيفها، واختراع المحركات والحواسيب وغيرها الكثير.
ومازالت قصة الحضارة مستمرة منذ أن بدأتها الثورة الزراعية قبل أكثر من اثني عشر ألف عام!
التعليقات